القائمة الرئيسية

الصفحات



 مدخل إلى التربية

التربية من أجل العلوم والمعارف والمهارات التي على المرء أن يسعى جاهدا لاكتسابها؛ فهي العملية التي تخوله مساعدة الغير على النمو والتطور في مختلف جوانب الحياة، إنها صناعة إنسان جديد مُحمَّل بقيم وأفكار ومعتقدات وأهداف في الحياة. ولهذا يقع على عاتق المتصدر إلى التربية مسؤولية عظيمة سواء كان أحد الوالدين، أو أحد الدعاة والعلماء، أو مدرسا تصدر لحمل عبء هذه المسؤولية الخطيرة. إنها مسؤولية صناعة مجتمع؛ فالفرد الذي يُخَرّج على يديه إما أن يكون مسهما في نهضة المجتمع؛ أو إحدى أدوات الهدم والتخريب.

التربية منهج متكامل شمولي، والنظر إليها وفق المنظار الغربي سينتج عنه قصور في إدراك كنهها وماهيتها، فما الذي نؤمله ونرجوه من التربية؟ أليس نريد تخريج أفراد صالحين لمجتمع صالح؟ لذلك لا أرى بأسا في استحضار بعض الأفكار الخلاقة حتى من التيارات التي هي في أصلها مخالفة للدين، ولا ضير كذلك في الاستشهاد بنظريات المدارس الغربية؛ فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها. وهذا لا يعني أني جعلت كل التراث الإسلامي دبر أذني، واستعضت عنه بالنظريات الفلسفية والآراء الفكرية التي ثبت عدم جدواها مرارا؛ إذ هي مجرد محاولات بشرية من عقل بشري مقضي عليه بالقصور والخطأ والسهو والنسيان. بل إن الدعوة الإسلامية ما قامت إلا على تربية من نوع خاص لأناس من نوع خاص من طرف رجل خاص صلى الله عليه وسلم، بمنهج ما زال محفوظا لدينا إلى اليوم، فسادوا الدنيا في سنوات قلائل، وهذا الذي يدفعنا للسؤال عن الغاية والمقصد من ممارسة عملية التربية؟

إن الاسترسال في هذه المقدمة المطولة نوعا ما قد يمله البعض، لكن إثارة الأسئلة يقتضي التوطئة لها، وما هذا إلا المدخل لهذا المجال الفسيح المتسع الذي نرجو أن نلم به إلماما ولو يسيرا...

هي سلسلة سأشرع فيها مع عدم وضع نقطة نهاية محددة لها، والله أرجو أن يعين على بلوغ المراد ويهديني سبيل الرشاد ويرزقني التوفيق والسداد.

 

 

تعريف التربية

المدلول اللغوي: 

أما في اللغة فهي مشتقة من الرب؛ وهو السيد والمالك والمنعم والمربي، والرباني العالم الراسخ في العلم والدين، ويقال له ذلك لأنه يربي المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها.

المدلول الاصطلاحي:

 أما التعريف الاصطلاحي، وهو الذي فيه التفصيل والتأصيل لما سيبنى عليه. يبنغي أن يحيط القارئ الكريم بأن الحد الاصطلاحي لأي مفهوم يختلف باختلاف المذهب والمشرب. لذلك لا يمكن أن تجد مفهوما واحدا قد اتفق الناس على وضع حد اصطلاحي واحد له. فحتى داخل الدين الواحد، بل والمذهب الواحد تتعدد التعاريف والحدود الاصطلاحية للمفهوم الواحد. وعليه فقد عرفت التربية كما هو في كتاب:

«التوقيف على مهمات التعاريف» (ص95):

بأنها "إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام".

والتربية يقصد بها الرعاية والعناية في المراحل الأولى من عمر الإنسان، سواء ما تعلق ببنيته الجسمانية، أو ما وُجه إليه من توجيهات وإرشادات تكسبه القواعد والسلوك التي ينبغي مراعاتها حتى يكون فردا في جماعته التي ينتمي إليها.

إلا أن لي تحفظا على هذا التعريف الأخير، حيث إن التربية لا تكون فقط في المراحل الأولى من عمر الإنسان، بل الإنسان في حاجة دائمة إلى ما يمنحه تلك السمة التي يتطلع إليها، وهي الكمال، هذا الذي يقودنا إلى تعريف آخر يرى أن التربية هي النماء والزيادة؛ حيث يتضح أن صاحب هذا التعريف ردها إلى الجذر اللغوي الذي تتكون منه، ومنه الربا الذي يحمل معنى الزيادة ...  

ولمزيد اطلاع بإمكانك أخي القارئ مراجعة هذا المقال على شبكة الألوكة الذي هو تحت عنوان مفهوم التربية لغة واصطلاحا.

التربية من حيث التعريف الذي تم إيراده أعلاه، والذي هو "إنشاء الشيء حالا فحالا، إلى حد التمام"، هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحب الكرام، حيث قام بتعليمهم تعليما ربانيا، وهو الأسوة والقدوة، متبعا منهجا يعتمد على التدرج، والناظر في الحالة التي كانوا عليها حينئذ وما صاروا إليه بعد سنوات قلائل يتبدى له جليا إثمار المنهج النبوي الذي روعي في تربية ذلك الرعيل الأول.

الخلاصة من هذا أن الإسلام ما هو إلا عملية تربوية كبيرة، والمربي المسلم يراعي في ذلك الأوليات والأولويات والأسس التي عليها يبنى ما بعدها. لهذا استنبط العلماء المسلمون من هذا المنهج الشمولي ما ينبغي أن يَعتمد عليه المربي أثناء ممارسته العملية التربوية، والتي هي مستمرة لا تنقطع. فخلصوا إلى مصادر التربية التي هي النبع الصافي الذي خرج ذلك الجيل الذي لن يتكرر أبدا على مر التاريخ، ولكن لو اعتمدنا نفس المنهج، فسنخرج فئاما من الناس يشبهون أولئك، وهذا الذي تؤيده بعض نظريات علم النفس السلوكي.

مصادر التربية

إن الفقهاء خلصوا بعد إعمال النظر في المنهج الإسلامي الذي اعتمده النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الجيل الأول من الصحابة، إلى مصدرين أساسيين، وزادوا عليهما من باب الاجتهاد ثالثا، وهو غير خارج عنهما.

-         القرآن الكريم؛ إن كلام الله عز وجل وحي منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو الذي أراهم المقصد ، وهداهم السبيل، ودلهم على الطريق القويم.

الأساس الذي يبنغي أن يراعى في عملية التربية، هو تحديد معنى الحياة، فإنْ فَهِمَ المتربي المعنى والغاية من الوجود، تيسر تعليمُه كل شيء، والقرآن أكد على هذه المسألة مرارا...

ثم إنه لا يخفى على كريم علمك أخي القارئ، أن القرآن نزل منجما بحسب الوقائع: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث." و "وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة". فكان القرآن يتنزل لمعالجة ما يحدث للناس من مشاكل، وهكذا يتربى الصحب تربية عملية، واقعية، إيمانية وسلوكية.

والمسألة المراعاة في هذا هي تأمل العربي الفطن الذي يفهم مراد الشارع منه حين يقول تبارك وتعالى: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير." فالذي أسلم قياده لله وآمن به، علم أن الله، وهو خالقه، عالم الغيب، أعلم سبحانه وتعالى بما يصلحه، فاتبع أمره.

-         السنة النبوية؛ الذي صدق بالقرآن، لا يُستغرب أن يتمثل له الكمال البشري في الذي اختاره الله تبارك وتعالى لإبلاغه للبشرية، ولا يستغرب أيضا أن يمتثل هذا المنبهر بالكمال البشري لكل الأوامر التي يتلقاها من مبلغ الوحي صلى الله عليه وسلم. لذا لا عجب أن يكون المصدران مكملان لبعضهما. فكلاهما وحي.

-         آثار الصحابة؛ الصحابة عاصروا الوحي، ونالوا شرف الجلوس إلى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يمثلون الغاية في ما قد يصل إليه البشر غير المعصومين من كمال في أسمى صوره، وهذا الذي دفع الفقهاء إلى عد آثارهم مصدرا تربويا ثالثا مضافا إلى الوحيين، وهو في الأصل كما سبقت الإشارة غير خارج عنهما، فهم الأتقى والأفهم لمراد الشارع.

كانت التربية قديما مقتصرة على بعض الأشخاص الذين يمكن تحديد تأثيرهم على المتربي. بل ويمكن التنبؤ بمآله ومصيره. فهي غالبا كانت مقتصرة على الوالدين وبعض أفراد العائلة، وأحيانا الجيران، وبعد ذلك بالمعلم... إذن العملية التربوية يمكن فهمها والتحكم فيها.

 أما في العصر الحديث فقد تعددت مصادر التربية لتشمل بالإضافة إلى ما ذكر وإن تقلص حجم تأثيره، فصارت تشمل: السينما والمسرح والجرائد والأفلام والمسلسلات التلفزيونية والقصص والروايات الجيد منها والمبتذل، والمجلات والصحف، والإنترنت بكل ما يحويه من مواقع وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي ... ولهذا صار التحكم بالعملية التربوية للجيل الحالي أشبه بالمستحيل، في ظل هذه الظروف. 

لذا ما النتيجة التربوية لكلٍّ من المصادر القديمة والحديثة؟ هذا الذي سيتم مناقشته في مقال مستقل بحول الله وقوته.

 

أنت الان في اول موضوع

تعليقات

التنقل السريع